حين كانت الحياة أقلَّ تعقيدًا، اعتاد النّاس على تقليل الإحتمالات غير المرغوبة وانطلقوا في بناء مستقبلهم باستقرارٍ أكبر. غير أنّ الأمور لم تعد كما عهدتها الأجيال العديدة الماضية. رغم أنّ أسلافنا وأجدادنا يتهموننا بالمبالغة في الخوف من المستقبل، إلّا أن ما آلات إليه الأمور اليوم لا يبشّر بالإستقرار المرجوِّ.
لكن السؤال الأهم هنا ألا وهو : هل المجهول والغموض محمودان ؟ أم أنّه شيطان خبيث يعطّل حياتنا ويقمع آفاقنا ؟
أقول هنا، الإجابة ليست مطلقةً. فلا الأمر إيجابيٌّ في كلِّ الحالات ولا سلبيٌّ أيضًا.
في الحقيقة، لتحديد مدى نجاعة هذا المجهول يجب أن نعود إلى الظروف التي ينبع داخلها. ففي حين أن الأمور لم تكن بهذا التعقيد في الماضي، إلّا أن العالم يشهدٌ تغيّرات سريعةٍ ومستمرّةٍ في السنوات الآخيرة. ممّا يهدد الإستقرار الإجتماعي والسياسي والديني والثقافي والإقتصادي وهو ما يهدد بدوره استقرار الأفراد.
فأضحت رؤى الأشخاص ضبابيّة أكثر فأكثر واستسلم العديد منَّا إلى هذه المتغيّرات غير آبهين بالمستقبل وما يحمله في طيَّاته.
لكن قبل كلَّ شيء، لنحلّل المواقع المتشعّبة التي تتبنَّاها مختلف الفئات حين يتعلَّق الأمر بالمجهول والشك و الريبة :
تخيّل هذا الرّسم البياني أمامك في حالة ظهور فايروسٍ تجهل السلطات تفاصيل ظهوره ونسبة خطورته ومتغيّراته مثلما حصل مع فيروس “كوفد_19 ” إثر ظهوره في العالم. يحتوي هذا الرّسم على أربع تصرَفات أو سلوكاتٍ محتملةٍ :
الفزع مقابل الهدوء والإستعداد البالغ فيه مقابل الإهمال والتملّص من المسؤوليّة :
- بالنسبة للمجموعة الأولى : سيصيبها الهلع والفزع الشديدان وستتّخذ كلّ قراراتها بلاعقالانيّة مفرطة. وبالتّالي، ستسرف في شراء المواد الغذائيّة ومواد التنظيف والتعقيم وستكون أكثر عدائيّة داخل المحلّات التجاريّة حتى توفّر الكميات المهولة التي تخطط للاحتفاظ بها أثناء هذه الأزمة. ممّا سيؤدي إلى إهدار مبالغ كبيرة من الأموال التي قد تكون في حاجة إليها في المدّة القادمة وافقار السوق المحليّة من مواد التنظيف والغذاء ممّا يؤدي إلى خطر تعرّض أشخاص آخرين لخطر الموت من الجوع مثلاً : هذه المجموعة غير عقلانيّة وقراراتها أنانيّة وقصيرة النّظر.
- أما بالنّسبة للمجموعة الثانيّة : فهي مصابة بالفزع ولكنها مهملة وغير مسؤولة. فهي تدرك خطور الوضع ولكنّها لا تقوم بأيّة خطوة لتفادي المصائب بل وتزيد من نشر الفزع والخوف بين النّاس علمًا وأنَّ الصحّة النفسيّة على نفس مستوى الأهميّة مع الصحّة الجسديّة. وهو ما ينتج عنه إصابتها بهذا الفيروس والهلع الذي سيفقد أعصابها السيطرة ما يجعلها أكثر عرضةً للتأثّر باّية متغيّرات جديدة.
- في حين أنّ المجموع الثالثة غايةٌ في الهدوء. غير أنّ هدوءها هذا نابعٌ من حقيقةٍ مفادها أنّ ” الأعمار بيد الله” أو “غير مهم فالهلاك بانتظارنا لا محالة”. تصرّفاتها الباردة وفتورة مشاعرها تجعله غير آبهة بخطور الوضع ممّا يؤدي لا إلى إهمال التحضيرات اللاّزمة واحترام القوانين والبروتوكول الصحّي فقط، بل و إلى تعريض حياة الآخرين إلى الخطر الشديد أيضًا.
- أخيرًا وليس آخيرًا، المجموعة الرّابعة: كما نرى في الرّسم البياني، تدرك هذه المجموعة خطور الوضع ولكنّها تسمح لنفسها بالتفكير عميقًا في مخلّفات الفزع الذي من شأنه أن يكون أكثر خطرًا من الفيروس نفسه. وكما نرى موقعها في المخطط البياني، فهي تتراوح ما بين التحضير المتوازن والتفكير العقلاني. ستقوم هذه المجموعة منذ البداية بتحديد احتياجاتها بطريقة مدروسة مع السّماح للآخرين بفرصة إتّخاذ نفس التدابير لحماية أنفسهم. تتفوّق هذه المجموعة على نظيراتها إذا ما تعلّق الأمر بنسب البقاء على قيد الحياة وحماية كلَّ من حولها.
لقد كان هذا المخطط البيانيّ طريقة سهلة لتبسيط السلوكيّات المختلفة التي قد تصيب الأشخاص حين يتعلّق الأمر بالمجهول ويمكن أن تُطبِّق الرّسم نفسه على أي أمر تجهله في الحياة سواء كان كارثة طبيعية أو عقبةً محتملةً لمشروع أحلامك أو ثورة شعبية تلوح في الأفق. كلّ ما عليك فعله هو دراسة الأمر بإمعان وتحديد ما إذا كنت تريد الانتماء إلى المجموعة الأولى أم الثّانية أم الثّالثة أم الرّابعة.
لا شكّ في أنّ علينا استعمال هذا الرّسم البيانيّ في العديد من الأحيان خاصّة وأن العالم يتغيّر باستمرار شديدٍ ولا شيء فيه مضمون.
وحين تحدد موقعك من هذا الرّسم، قم بالقائمة التّالية :
- ابحث عميقًا لجعل كلِ قراراتك مفيدةً.
- خذ قراراتٍ فاعلةً دون افراطٍ ولا تفريطٍ.
- كن هادئًا ورصينًا بالرّجوع إلى حقيقة أنّك قمت بكل الخطوات اللّازمة.
- عدّل واضبط خطّتك حسب المعلومات الجديدة التي تردك.
- والأهم من هذا، لا تبالغ في مشاهدة الأخبار أو متابعة مواقع التّواصل الإجتماعي، فهي قادرة على ارباكك وبعث الهلع فيك أكثر ممّا يستحقّه الأمر.
ليس من السّهل أن تكون هادئا و مطمئنًّا في حين أن مشاعر الخوف والقلق والتوتّر يحيطون بك. ولكنّ تذكّر، القلق جزءٌ من التجربة والأهم من هذا أنّ البشر قادرون على اختيار ردود أفعالهم و استجاباتهم في خضم هذه الظروف الصّعبة.
سؤالي لك الآن هو : هل ترغب في أن تكون على علمٍ بكل المتغيّرات التي تصيب عالمنا اليوم ؟ هل تريد أن تكون قادرًا على رؤية المستقبل بكل تفاصيله وأن تكون على علمٍ بكلّ خباياه؟
قد يكون جوابك “نعم بالطبع أريد ذلك” ! ولكنّني لا أتمنى لك الأمر أبدًا.
يمكن أن يكون المجهول والشّك وعدم اليقين أمرًا مخيفًا لأنه يصيبك بالارتياب والخوف من الخطوة التّالية ولكنّه يجعل لحياتك وقراراتك معنى. فأنت في هذه الحياة المثاليّة التي تعلم كلّ خطوة قادمة فيها، لن تكون قادرًا على تحديد ما إذا كانت هذه هي الحياة التي ترغب في عيشها. خاصةً وأنّها ستكون خاليةً تمامًا من مظاهر التشويق ولوعة الانتظار وحب الاستكشاف. أنت في تلك الأحداث الجاهزة، غير قادرٍ على الاحتفاظ بذكرياتك الجميلة أوالسيئة ولن تكون قادرًا على بناء مستقبلك بالعودة إلى التجارب السّابقة التي عشتها أو الدّروس الجديدة التي تعلّمتها. سينصهر الماضي مع الحاضر وسيندمج كلاهما مع المستقبل وتصبح تائهًا وغير آبهٍ بأي شيء على الإطلاق. فحياتك من دون شكوكٍ و من دون مجهولٍ، مُتوَّقعةٌ وجاهزةٌ ومرئيّة.
كلُّ ما أنصحك به حين يتعلق الأمر بالمجهول هو أن تكون مستعدًا للتغيير والتعديل والتّأقلم مع كلّ ما هو جديد من خلال التخطيط اللّامفرط والغوص في تجربة عقلانيّة مختلقة الأحاسيس والمشاعر.
وتذكّر دائمًا أنّ اختلاف تصرّفات الأشخاص أثناء مواجهتهم للمجهول والعقبات يعود بالأساس إلى خلفيّاتهم المختلفة وتجاربهم السّابقة. فكن أكثر تعاطفًا وصبرًا معهم وافتح قلبك لتشجيعهم ومواساتهم ومساعدتهم. ولا تنسَ أن تحط نفسك بأشخاصٍ إيجابيين يشجعونك على تحدّي المصاعب ويبعثون الطمأنينة والأمل في حياتك. فكل هذه العوامل النفسيّة قادرة على انجاح عمليّاتك الإنتقاليّة و جعل مسارك أكثر سهولةً ونجاحًا !